9

في أول يوم من رمضان فوجىء تجار السوق بعجوز مهيب ذي لحية شهباء كثيفة وشعر أبيض ثلجي طويل مرسل وجهه يشع نورا ورضا وملامحه مستكينة وكأن روحه الراضية المطمئنة تكسو كل ملامحه بالرضا والهدوء والسماحة والسرور.
هذا العجوز العجيب كان يدق على طبلة صغيرة وهو يسير في طرقات السوق وينادي بصوت عميق ” يا عباد الله …. أين الصائمون الجدد ؟؟!! إني أبحث عن الصائمين الشباب !! من يجد صائما واحدا ليخبرني.
نظر عمر للرجل وقال هامسا لنفسه: هذا الرجل كأنه من أهل الكهف قادم من جوف الزمان .
سأل عمر والده: من يكون هذا العجوز؟ وما معنى كلامه؟
أجابه الوالد : دع الخلق للخالق وانصرف لعملك.
قال عمر: – وهو يشعر أن هناك قوة هائلة تجذبه نحو الرجل – سأذهب إليه لأرى ماذا يقصد.
قال الوالد : اذهب وعد سريعا لعملك.
ذهب عمر للرجل العجوز المهيب وسأله : يا عم ماذا تقول ؟؟!!! ونحن كلنا صائمون.
أجابه العجوز بصوته العميق : تكلم عن نفسك يا بني , هل أنت صائم؟
قال عمر : نعم .
قال العجوز: اتبعني لنرى.
قال عمر : وماذا عن عملي ؟
قال الرجل العجوز: أداء العمل بإتقان شرط لصحة الصيام , سأنتظرك عند الصخرة الحمراء بعد صلاة العصر.

تركه العجوز العجيب وأخذ يسير ويدق على الطبلة وهو يتساءل عن الصائمون الجدد.
ضحك طفل صغير وقال وهو يشير نحو العجوز هل نحن في السحور؟ وهل هذا هو المسحراتي الجديد ؟ وأين عم سيد المسحراتي ؟

اختفى الرجل تاركا خلفه هذه التساؤلات .

وبعد العصر وأمام الصخرة الحمراء تجمع عدد كثير من الشباب الصائمين الجدد حول العجوز العجيب الذي أشار نحو جبل لم يره أحد من قبل وقال بصوت عميق مؤثر : الصائمون سيصعدون هذا الجبل أما من لا يصعد فليس صائما !!!!!!!!!!!!!!!!!!
انصرف عدد من الشباب ضاحكين هازئين .
لكن عمر سأل متشككا : ولماذا نصعد هذا الجبل أيها الرجل؟
قال الرجل : أنا أمتلك كنوزا خلف هذا الجبل , وسأعطيها لمن يتبعني.
سأله عمر : هل كنوزك من الأموال؟
قال الرجل: كنوزي أثمن من الأموال والآلي والذهب.
صوت الرجل كان ممتليء بالصدق ولم يختلج له جفن وهو يتكلم , فبدأ الشباب الصائمون صعود الجبل ولكنه كان شاقا عسيرا فتدحرج بعضهم وانصرفوا غير آسفين .
أما عمر فقد حاول مع الآخرين حتى وقت الغروب .
ابتسم الرجل وقال لهم : المحاولة في البداية صعبة شأنها شأن كل عمل , لكن بالاستمرار والتعود والإرادة نبلغ ما نريد . انصرفوا الآن للإفطار وأراكم غدا .
في اليوم التالي وجد الشباب أن المحاولة أسهل خاصة في الجزء الذي صعدوه في اليوم السابق .قال الرجل لهم مشجعا : إن الكنوز خلف هذا الجبل فاستمروا في المحاولة.
وبعد أسبوعين كاملين نجح عمر وبعض رفاقه في الصعود للجبل , لكن آخرين فشلوا وانصرفوا.سأل عمر الرجل : أين الكنوز؟؟؟؟؟؟؟؟
قال الرجل: مختبئة في بئر عميق سنحفرها.تشكك عمر في كلام الرجل وحدجه بنظرة ثاقبة متسائلة . لكن الرجل هادى ومهيب ومبتسم ومطمئن. فلم يجد عمر ومن معه مفر من إطاعة الرجل وحفر البئر. وبدأ الرجل في تكليف الشباب بإرسال نقود للمحتاجين بل وفي زراعة الأشجار وإطعام الطعام وسقيا الماء للناس وأعمال أخرى خيرية كثيرة .كل ذلك مع الاستمرار في حفر البئر .
قال عمر ضجرا : إن مطالبك كثيرة.!!!!!!!!!!!!
قال الرجل العجوز: لا تنس أن الكنوز ثمينة وقيمة وستعوضك عن كل شيء.
( صوت الرجل يهز القلوب ويفتح مصاريعها )
سأله عمر : ومتى ننتهي من حفر البئر والحصول على الكنوز؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
قال الرجل : في نهاية الثلاثين يوما.
قال عمر : لم يتبق الكثير …………….. سنستمر و نرى .

في اليوم الثلاثين أسرع الشباب نحو الصخرة الحمراء لمقابلة العجوز فلم يجدوه ولكن وجدوا رسالة منه بأن اللقاء سيكون في فجر اليوم التالي وحذرهم من التأخير.
عندما امتلأ الأفق بصوت المؤذن الله أكبر ………… الله أكبر , لبس عمر ملابسه الجديدة وأسرع لصلاة الفجر وهو يشعر بسعادة لم يشعر بها من قبل وبعد أن صلى الفجر ذهب إلى الصخرة الحمراء فوجد عدد من الشباب في ملابسهم الجديدة الزاهية الألوان .

سأل عمر : أين الرجل ؟

قالوا: لم يأت بعد.

وفجأة أتاهم طفل جميل صغير ضاحك , يقول لهم : كل سنة وأنتم بخير :

قالوا: وأنت بخير . أين الرجل العجوز؟؟!!

قال: أنا ابنه.

قالوا: لكن أين هو؟؟

قال: سيأتي العام القادم.

أبدى الشباب ضيقهم من الأمر و كأنهم تعرضوا للاستهزاء والسخرية والخداع لكن الطفل قال لهم : إنه أرسل الكنوز معي .

قالوا : وأين هي ؟؟؟
قال : أنا أول كنز ….. فأنا عيد الفطر .
ضحك الشباب ولكنهم سألوا الطفل العجيب والرجل العجوز من يكون ؟

قال : شهر رمضان.

قالوا: والجبل الذي صعدناه؟

إنه الصبر على الجوع والعطش وأذى الآخرين والتسامح والعفو والتكاتف والتعاون.

قالوا: وحفر البئر؟؟

قال: إنه تهذيب النفس و تنقيتها من كل نقص و تزكيتها بكل طيب.

بالرغم من سرور الشباب من هذه الإجابات إلا أن عمر سأل : وأين الكنوز التي وعدنا بها الرجل؟؟

أجابه الطفل: انظر إلى روحك و ما حدث فيها ………… إن المجاهدات أكسبت روحك قوة والكنوز تفجرت في قلبك فأصبح أكثر عطفا وشخصيتك أصبحت أكثر ثراء بالصدق والإيمان والعمل المثمر , إن الكنوز المعنوية التي اكتسبتها خير وأكثر قيمة من أي كنوز أخرى …. إنها كنوز رمضان أيها الشاب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Skip to content